فصل: مسألة القاضي يضرب الرجل ثم يعزل فيشهد على المضروب في حق يعلمه قبله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة القاضي يضرب الرجل ثم يعزل فيشهد على المضروب في حق يعلمه قبله:

ومن كتاب الصبرة:
وسألته عن القاضي أو غيره من أهل العدل من ولاة السوق أو الشرطة يضرب الرجل على ما ثبت عنده من نية ثم يعزل فيشهد على المضروب في حق يعلمه قبله فيريد رد علمه عنه للذي كان من ضربه إياه أيكون ذلك له؟ فقال: إن كان القاضي أو صاحب الشرطة أو صاحب السوق من أهل القناعة والعدل ممن لا يتهم أن يكون ضربه تعديا عليه ولا يضرب مثلهم إلا في حق واجب على من ضربوا فشهادة كل واحد منهم جائزة على من ضرب إذا شهد عليه بعد عزله أو في ولايته.
قلت له: أرأيت إن كان إنما شهد عليه في الأمر الذي ضرب فيه أو لذلك الخصم الذي ضربه له في تلك الخصومة بعينها أترى شهادته جائزة عليه؟ قال: لا أرى ذلك ولا أحب أن أجيز علمه عليه في تلك الخصومة ولا ما جر إليها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ لا تهمة عليه في شهادته عليه في غير ما ضربه فيه، ويتهم إذا شهد عليه في الخصومة التي ضربه فيها أو في شيء مما جر إليها أنه إنما شهد عليه ليحقق عليه المعنى الذي ضربه من أجله فيسقط عن نفسه الظنة في ضربه إياه، قال أصبغ في الواضحة: ولو شهد المضروب عند وال غيره على حق فأعلمه أنه غير عدل، وأني قد ضربته حدا من حدود الله فإني أرى أن ترد شهادته بقوله وحده، وأما بعد عزله فلا يجوز ذلك عليه شهادته ليجرحه بذلك؛ لأنه يريد أن ينفذ حكمه عليه بشهادته، وقول أصبغ هذا نحو قول ابن الماجشون في كتاب القاضي إلى القاضي بتعديل الشاهد من أهل عمله معارض لرواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الأقضية، وقد مضى القول على ذلك مشروحا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة العدل يشهد على الرجل فيريد المشهود عليه أن يجرحه:

وسألته عن الرجل العدل يشهد على الرجل، فيريد المشهود عليه أن يجرحه بأن زعم أن الشاهد ينتمي إلى أب لم يلحق به نسبه فيكشف القاضي أمره، فإذا الشاهد ابن أمة رجل مات عنها وقد ولدت هذا الشاهد في حياته أو هي حامل فولدت بعد موته فزعمت أن حملها كان من سيدها فأقره الورثة وأقروا أمه ولم يقروا لها بإلحاق هذا الشاهد بأبيهم ولم يقسموا له ميراثا غير أنهم لم يدعوا رقبته ولا رقبة أمه، سكت الورثة عنها فانتسب لهذه الشبهة، ولم ينكر عليه بنو الرجل إذ لم يكلفهم سهمه فكان أمرهم على أن سكت بعضهم عن بعض.
فقلت: أتراه مجرحا بهذا الانتماء وهو معروف بالعدالة؟ فقال: أرى أن يسأل عنه بنو الميت، فإن أقروا له بالنسب لم يضره ترك الميراث وجازت شهادته، وإن لم يقروا له ولم تقم له بينة على إقرار الميت بوطء الأمة رأيته مجرحا بهذا؛ لأن عتاقته لا تثبت إلا بثبات النسب.
قلت: أرأيت إن كان الورثة أعتقوه وأمه وهم ينكرون نسبه وهو عدل غير أنه مقيم على الانتماء إلى الميت أترى ألا تجوز شهادته ما كان مقيما على الانتماء الذي لم يثبت له؟ قال: إني أراه مستحقا بذلك وما أحب أن تمضي شهادة مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، والمعنى فيها أن الأمة كانت ممن لا تصلح للفراش، فلذلك لم يلحق السيد ولدها، ولو كانت ممن تصلح للفراش للحقه الولد وورث إلا أن يشهد عليه أنه مات على استبرائها أو أنه لم يطأ فلا يلزمه الولد حيا كان أو ميتا وإن كانت تصلح للفراش، قاله ابن دحون، وهو صحيح، وبالله التوفيق.

.مسألة يدعي المقضي عليه أنه وجد عدولا يجرحون بعض الذين قطع القاضي بشهادتهم:

وسألته: عن القاضي يقضي للرجل ويسجل له بذلك ويشهد له عليه فيدعي المقضي عليه أنه وجد عدولا يجرحون بعض الذين قطع القاضي بشهادتهم ذلك الحق عليه، أترى أن يمكنه من ذلك؟ فقال: نعم، إن رأى القاضي لذلك وجها فيما يحتج به الخصم ويدعيه مثل أن يقول: والله ما كنت علمت بسوء حال هؤلاء الذين شهدوا علي، ما كان سكوتي عنهم إلا جهالة بحالهم، فلما أنبأني بحالهم عدول ممن يعرفهم ادعيت فسادهم، فإذا ادعى هذا ونحوه وتبين للقاضي أنه غير ملد نظر له.
قلت: أرأيت إن مات القاضي أو عزل أيجوز للذي ولي بعده أن يدعو بالتجريح الذي كان ادعاه عند الأول؟ قال: نعم، هو في ذلك بمنزلة الذي كان قبله، قال: ولو لم يدعه القاضي الأول بالتجريح ما كان للذي خلف مكانه أن يمكنه من ذلك ولا يتعقب النظر في قضاء قاض عدل قد أنفذه قبله، قلت: أرأيت إن ادعى عند القاضي الذي ولي بعد الأول الجهالة بحال الشهداء مثل الذي ادعى عند الأول حين رأيت أن ينظر له الأول بعده، فادعى مثل ذلك عند القاضي الثاني أترى أن ينظر له ولم يدع ذلك عند الأول؟.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القاضي يمكن المقضى عليه بعد التسجيل عليه بالقضاء من التجريح إذا كان لما ادعاه وجه هو مثل ما في الأقضية من المدونة، وسكت عن الجواب إذا قام بذلك عند من ولي بعده دون أن يدعي ما قام به عند الأول، وفي ذلك اختلاف، قيل: إنه يمكنه مما دعا إليه كما كان يمكنه الأول منه، وكذلك وقع في بعض الروايات، يفعل في هذا مثل ما كان يفعل في الأول، وقال ابن المواز وغيره ليس ذلك له؛ لأنه حكم قد وقع، وقد قيل: إن الأول لا يمكنه من ذلك بعد أن ابتدأ الحكم عليه بالقضاء، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يمكنه من ذلك هو ومن بعده.
والثاني: أنه لا يمكنه من ذلك لا هو ولا من بعده.
والثالث: أنه يمكنه من ذلك هو ولا يمكنه منه من بعده، وهذا في المطلوب، وأما الطالب ففيه قول رابع سوى هذه الثلاثة الأقوال، وهو قول ابن الماجشون؛ لأنه فرق بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل ثم رجع على الطالب، وقد مضى هذا في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح، وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة شاهدين من المسلوبين على الذين سلبوهم:

وسئل: عن الرجلين يعرض لهما اللصوص فيسلبونهما فيشهدان أن هؤلاء اللصوص سلبونا هذا المتاع وهذه الدواب لمتاع أو دواب قائمة في أيدي اللصوص بعينها، فقال: يقام عليهم بشهادتهما حد المحاربين ولا يستحقان ذلك المتاع والدواب إلا بشهيدين سواهما أو بشاهد يحلفان معه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف في تأويلها، فقيل فيها: إنها مخالفة لما في المدونة إذ لم يقل فيها: إنه يحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه ويستحق متاعه ودوابه على قياس قوله في كتاب السرقة منها إنه يقام على المحاربين الحد بشهادة الذين شهدوا عليهم أنهم قطعوا عليهم الطريق وأخذوا أموالهم ويعطوا المال بشهادة بعضهم لبعض ولا يقبل شهادة أحد منهم في مال نفسه أنه أخذ منه، وقيل: إنها ليست مخالفة لها والمعنى فيها أنهما شريكان في المتاع والدواب، فلذلك لم تجز شهادة واحد منهما لصاحبه، إذ لا يختص بشيء من المتاع والدواب دونه، وقيل: إنهما يستحقان الدواب والمتاع بشهادتهما، وإن كانا شريكين فيهما، وهو الذي يأتي على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وروايته عن مالك في أن شهادة شاهدين من المسلوبين على الذين سلبوهم جائزة في الحد وفي المال لأنفسهما ولأصحابهما؛ لأن شهادتهما إذا جازت في الحد جازت في المال لأنفسهما ولغيرهما، إذ لا يصح أن يجاز بعض الشهادة ويرد بعضها، وقد قيل: إن شهادتهما لا تجوز في الحد ولا في المال لغيرهما إذا لم تجز لأنفسهما؛ لأن من اتهم في بعض شهادته بطلت شهادته كلها، وهو قول أصبغ، فيتحصل في شهادة المسلوبين على السالبين بالسلب والمال أربعة أقوال؛ أحدها: أن شهادتهم عليهم جائزة بالسلب والمال لأنفسهم ولمن سواهم فيقام الحد على السالبين بشهادتهم ويقضى بما شهدوا به من المال لهم ولمن سواهم، وهو قول مطرف وروايته عن مالك.
والثاني: أن شهادتهم لا تجوز لا في الحد ولا في المال لا لأنفسهم ولا لمن سواهم، وهو قول أصبغ.
والثالث: أن شهادتهم تجوز في الحد وفي المال لغيرهم ولا تجوز لأنفسهم، فإن كان الشهود أربعة قضي للاثنين منهم بشهادة الاثنين وللاثنين بشهادة الاثنين، وإن كانوا اثنين قضي لكل واحد منهما بشهادة صاحبه مع يمينه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
والرابع: أنه لا يجوز في ذلك أقل من أربعة شهداء، وإنما تجوز شهادتهم في الحد وفي أموال الرفقة ولا تجوز في أموال الشهداء، وهذا كله إنما هو إذا شهدوا فقالوا: سلبونا فأخذوا منا هذا المال وهذا المتاع والجارية لفلان والدابة لفلان والثوب لفلان وكذا لفلان وكذا لفلان وكان الذي شهد به الشهود من ذلك لأنفسهم كثيرا، وأما إن كان الذي شهدوا به لأنفسهم من ذلك يسيرا لا يتهمون عليه فشهادتهم جائزة في الجميع لهم ولغيرهم، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي في الوصية لموضع الضرورة في ذلك ولموضع الضرورة فيه وقع الاختلاف المذكور إذا كان الذي يشهد به الشاهد لنفسه كثيرا، فمن لم يراع الضرورة وأعمل التهمة أبطل الشهادة في الجميع، ومن راعى الضرورة وأسقط التهمة أعمل الشهادة في الجميع، وعلى هذا يأتي ما في المدونة؛ لأنه لم يبطل شهادة الشاهد لنفسه من جهة التهمة، وإنما أبطلها من أجل أنه لا تجوز في السنة شهادة أحد لنفسه، والشهادة إذا بطل بعضها للسنة لم يبطل جميعها على المشهور في المذهب، ولو شهد على السالبين بالسلب دون المال لم يختلف في إجازة شهادتهم عليهم في الحد ولا في شهادة بعضهم لبعض بعد ذلك فيما وجد بأيديهم من المال، وسيأتي من هذا المعنى في نوازل سحنون ونوازل أصبغ، وبالله التوفيق.

.مسألة الشهود الأربعة إذا اختلفوا في الطلاق:

قال: وسمعت مالكا قال في أربعة نفر كانوا في مجلس واحد فأتوا السلطان فشهد رجلان منهم أن رجلا كان معهم جالسا حلف بطلاق امرأته البتة أو اثنتين، وقال الآخران: نشهد أنه ما طلق إلا واحدة، وكلهم يزعم أن طلاقه الذي سمعوا منه إنما كان في كلام واحد، فقال: تطلق عليه بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من الطلاق، وكذلك لو قال اثنان: نشهد أنه أعتق غلاميه زيدا وميمونا، وقال الآخران: نشهد لما تقول ولا تكلم بغير عتاقة زيد وحده إنه يعتق عليه زيد وميمون بشهادة اللذين أثبتا ذلك عليه، قال: وإنما مثل ذلك عندنا كمثل رجل ادعى أنه أسلف رجلا عشرين دينارا فجاء بأربعة شهداء عدول مرضيين أشهدهم عليه في مجلس واحد حين دفع السلف إليه فشهد اثنان بالله لأسلفه عشرين دينارا بحضرتنا جميعا، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه يومئذ بحضرتنا حتى افترقنا إلا عشرة دنانير، فوجه الجواب الذي مضى به الأمر في هذا أن يؤخذ بالعشرين الدينار؛ لأن اللذين شهدا له بها أثبتا وحفظا ما أغفله الآخران أو نسياه، فالشاهدان بالأكثر أحق بالتصديق؛ لأن البينة على المدعي فيما جاء به من شاهد على تصديق دعواه حكم له بشهادته إذا كان عدلا، قال ابن القاسم:
ولكن لو أن أربعة نفر شهد منهم رجلان على رجل أنه طلق امرأته وشهد الآخران أنه لم يتفوه في مجلسه ذلك بشيء من الطلاق ولكنه حلف بعتق غلام له سمياه لم أر لهم شهادة أجمعين لا في طلاق ولا في عتاق؛ لأن بعضهم أكذب بعضا، وهو الذي سمعناه، قال: وإن اختلفوا فقال بعضهم: نشهد أنه طلق امرأته فلانة أو أعتق غلامه فلانا، وقال الآخران: نشهد أنه ما ذكر امرأته فلانة حتى تفرقنا، وما حلف بطلاقها، ولكنه حلف بطلاق امرأته فلانة يريدون امرأة أخرى، وقالوا: نشهد ما أعتق الذي شهدتم له بالعتاقة، دلكنه أعتق فلانا آخر فإن الشهادة تبطل وتسقط من قول الأولين والآخرين في العتاق والطلاق على هذا النحو؛ لأن بعضهم أكذب بعضا.
قال محمد بن رشد: قوله: في الشهود الأربعة إذا اختلفوا في الطلاق فشهد الاثنان منهم أنه حلف بطلاق امرأته البتة أو اثنتين، وقال الآخران: لم يطلق إلا واحدة أنه يؤخذ بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من الطلاق يدل على أن البتة عنده تتبعض، وهو قول أشهب وسحنون، وعليه يأتي ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة من تلفيق شهادة الشهود إذا شهد أحدهم بالثلاث والآخر بالبتة خلاف قول أصبغ في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق وما حكى ابن حبيب عن ابن القاسم وما في كتاب ابن المواز وفي المبسوطة لمالك من أن البتة لا تتبعض، وقوله: إنه يؤخذ بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من عدد الطلاق أو عدد المال هو المشهور من مذهب ابن القاسم، وقد رأى ذلك في أحد قوليه تكاذبا وتهاترا، والقولان قائمان من المدونة، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين أن تكون الزيادة بزيادة لفظ مثل أن يشهد الشاهدان أنه أقر له بعشرين، ويقول الآخران: بل أقر له بأحد وعشرين، أو بغير زيادة لفظ مثل أن يقول الشاهدان: أقر له بتسعة عشر، وقال الآخران: بل أقر له بعشرين، وهي تفرقة لها وجه من النظر.
وفي قوله: شهد اثنان بالله لأسلفه، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه إجازة الشهادة مع اليمين خلاف ما في كتاب ابن شعبان من أنه لا تقبل شهادة من شهد وحلف، والصواب: أن لا تبطل بذلك شهادته إلا أن يتبين من يمينه أن له شهودا قبل المشهود عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أمر نبيه باليمين فيما أمره به من الشهادة في غير ما آية من كتابه فقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] وأما إذا شهدت إحدى البينتين بخلاف ما شهدت به البينة الأخرى مثل أن تشهد إحداهما بعتق، والثانية بطلاق، أو إحداهما بطلاق امرأة، والثانية بطلاق امرأة أخرى، أو إحداهما بعتق عبد والثانية بعتق عبد آخر، أو إحداهما بعرض والثانية بعتق وما أشبه ذلك فهذا لم يختلف فيه قول ابن القاسم ولا قول مالك في رواية المصريين عنه في أن ذلك تكاذب وتهاتر يحكم به بأعدل البينتين، فإن تكافأتا في العدالة سقطتا جميعا.
وروى المدنيون عن مالك أنه يقضي بالبينتين جميعا استوتا في العدالة أو كانت إحداهما أعدل من الأخرى، وقد مضى هذا المعنى في نوازل أصبغ من كتاب التخيير والتمليك، وسيأتي في نوازل سحنون من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

.مسألة تكون بينهما الجارية فيشهد أحدهما أن شريكه وطئها فأحبلها:

وسئل: عن الرجلين تكون بينهما الجارية فيشهد أحدهما أن شريكه وطئها فأحبلها، قال ابن القاسم: إن كان المشهود عليه مليا فلا سبيل للشاهد إليها؛ لأنه إنما جحده ما كان يحكم عليه به من نصف قيمتها، وإن كان معدما كان له نصف رقبتها ولم يكن له إلى ولدها سبيل، واتبعه بنصف قيمة الولد إن أقر به يوما ما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إن المشهود عليه إن كان مليا فلا سبيل للشاهد إليها؛ لأنه إنما جحده ما كان يحكم له به عليه من نصف قيمتها صحيح لا يدخل فيه اختلاف قول ابن القاسم في هل يعتق نصيبه عليه إذا شهد على شريكه أنه أعتق نصيبه وهو موسر أم لا يعتق عليه ويبقى بيده ملكا له حسبما مضى القول فيه في رسم العتق من سماع عيسى، وسيأتي في رسم المكاتب من هذا السماع، إلا أنه لم يبين ماذا يكون الحكم في نصيبه إذا لم يكن له إليه سبيل، والحكم في ذلك أن يكون موقوفا؛ لأنه مقر لشريكه وشريكه ينكر ذلك، ويقول: بل هو لك ملكا، فإن أقر الشريك بأنه أحبلها كانت أم ولد له وغرم له نصف قيمتها، وإن لم يقر حتى يموت عتق حينئذ النصف الموقوف، وإنما لم يعتق في حياة المشهود عليه من أجل أنه إن أقر كانت له أم ولد وغرم القيمة للشاهد فكيف يعتق أم ولد رجل لكن يوقف ذلك النصف ويبقى نصفها الثاني بيد المشهود عليه رقيقا يبيعه إن شاء ويفعل به ما شاء مما يفعله ذو الملك في ملكه هو وورثته بعده.
وأما قوله: إن كان معدما كان له نصف رقبتها واتبعه بنصف قيمة الولد إن أقر به يوما ما فهو على القول بأن الأمة بين الشريكين إذا وطئها أحدهما فأحبلها ولا مال له يباع نصفها للذي لم يطأ في نصف القمة، فإن كان فيه نقصان عن نصف قيمتها يوم حملت اتبعه بما نقص من نصف القيمة واتبعه أيضا بنصف قيمة الولد، وأما على القول: بأنه يتبعه بنصف قيمتها يوم حملت ولا يكون له عليه شيء من قيمة الولد فالجواب في ذلك على ما تقدم إذا كان مليا سواء، وهذان القولان في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له لمالك رَحِمَهُ اللَّهُ في آخر كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وبالله التوفيق.

.مسألة يأتي القوم بذكر حق كتبه على نفسه لرجل غائب فيشهدهم على نفسه بما فيه:

وقال في رجل يأتي القوم بذكر حق كتبه على نفسه لرجل غائب فيشهدهم على نفسه بما فيه، قال: لا أرى للقوم أن يكتبوا شهادتهم في الذكر الحق يكون على هذا الوجه في غيبة من كتب لأني أخاف أن يريد هذا الكتاب الذي كتبه على نفسه للغائب أن يستوجب مخالطته لتجب عليه اليمين إن ادعى بشيء عليه يريد أن يعنته بتلك اليمين فعسى أن يفتدي منه بأضعاف ما أقر له به على نفسه مما لم يحضره ولم يقبل إقراره له فيه، ولكن ليكتب القوم القصة على حالها يذكرون إقراره لهذا الغائب بما أقر له به ويذكرون مغيب الآخر عنه، فإن جاء الغائب فصدقه وأراد قبض ما أقر له به لزم المقر إقراره ولزمت الغائب بذلك مخالطته واستوجب به إن ادعى قبله شيئا استحلافه، وإن أنكر ما كان من إقراره له وترك اقتضاءه ذلك لم يلزمه بالذي صنع المقر خلطة يستوجب بها إحلافه إن ادعى شيئا قبله، وهي في سماع ابن القاسم في كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن المعاملة الواحدة خلطة توجب اليمين خلاف رواية أصبغ عن ابن القاسم في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وقد قيل: إن رواية يحيى هذه تفسير رواية أصبغ فيكون المعنى فيها أنها قد تضاف هذه المعاملة إلى معاملة قبلها فتصير بذلك خلطة، ولا أقول إنها مخالفة لها ولا إن رواية أصبغ مفسرة لها، وإنما أقول إنها مسألة أخرى؛ لأنه تكلم في رواية أصبغ على أنهما تقابضا وتناجزا، وتكلم في هذه الرواية على المبايعة بالدين، فالمبايعة الواحدة لا توجب الخلطة إذا كانت بالنقد والتناجز على رواية أصبغ يوجبها إذا كانت بالدين على هذه الرواية، وإنما الخلاف عندي إذا كانت المبايعة الواحدة بالنقد فلم يقع النقد ولا حصل التناجز، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في سماع أصبغ المذكور من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي بثلث ماله لرجل ولم يشهد إلا شاهد واحد:

وقال في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل: إنه إن لم يقم بذلك إلا شاهدا واحدا حلف الموصى له مع شاهده واستحق الوصية، قال: وإن أوصى به في سبيل الله أو المساكين أو القبيلة من القبائل أو ما أشبه ذلك من الأمر المفترق والذي لا يحاط بعدة أهله ولا يشهد على الوصية إلا شاهد واحد إنه ليس لأحد من الغزاة أن يحلف مع الشاهد ويستحق بذلك ما أوصى به الرجل في سبيل الله، وليس لأحد من المساكين أن يحلف عن جميع المساكين ولا عن نفسه يريد أن يستحق الوصية بيمينه مع الشاهد؛ لأنه لا يدري ما يصير له من ذلك لو ثبت، وكذلك ما أوصى به لقبيلة أو لكل ما لا يحصى عددهم ولا يحاط بعلمهم..
قال الإمام القاضي: أما الموصى له الواحد فلا اختلاف أنه يحلف مع الشاهد ويستحق وصيته، وكذلك الجماعة المعينون المسمون يحلف كل واحد منهم ويستحق حقه من الوصية، وإن مات واحد منهم حلف كل واحد من ورثته واستحق ما يجب له من الوصية، وأما إذا أوصى للمساكين أو في السبيل أو لبني زهرة أو لبني تميم أو لقريش أو للأنصار أو ما أشبه ذلك مما لا يحصى ولا يعرف، وإنما الواجب أن تكون الوصية لمن حضر منهم على الاجتهاد، فلا اختلاف في أنه لا يمين في ذلك مع الشاهد، ويختلف إذا أوصى لمن يحصرهم العدد كإلى فلان ومساكين إلى فلان وما أشبه ذلك، فقيل: إنه يحلف جلهم ويستحقون الوصية لأنفسهم ولمن غاب منهم، وقيل: إنه لا يمين في ذلك مع الشاهد، والقولان قائمان من كتاب الوصايا الثاني من المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولادهم، وكذلك يختلف في الحبس المعقب، ففي كتاب ابن المواز أن اليمين لا تصلح فيه مع الشاهد، وقال عبد الملك عن مالك إذا حلف الجل منهم نفذت الوصية عليهم وعلى غائبهم إن قدم ومولودهم إذا ولد وفي السبيل بعدهم، وروى عنه ابن حبيب قال: يحلف من أهل الصدقة رجل واحد مع الشاهد وتنفذ له ولأهلها ولمن يأتي.
قال عن مالك أيضا: وإن باد شهودها ولم يثبت إلا بالسماع حلف أيضا واحد من أهلها مع الذين شهدوا بالسماع بأنهم لم يزالوا يسمعون من العدول أنها حبس على بني فلان ثم تستحق حبسا، وبالله التوفيق.

.مسألة الصبي يقوم له شاهد أن أباه كان تصدق عليه بغلام ويشهد آخر أن أباه كان نحله إياه:

ومن كتاب كراء الدور والمزارع:
قال يحيى: قال ابن القاسم في الصبي يقوم له شاهد أن أباه كان تصدق عليه بغلام ويشهد آخر أن أباه كان نحله إياه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت هاهنا ساقطة الجواب، ووقعت في سماع سحنون ومحمد بن خالد كاملة الجواب، وقد مضى القول عليها مستوفى في رسم العرية من سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهدان على حكم قاض فيقول أحدهما بشهادتي حكم القاضي مع غيري:

وفي الشهيدين يشهدان للرجل أن قاضيا من القضاة مات أو عزل وقضى له بكذا وكذا، وأن ذلك القاضي إنما قضى بذلك الحق بشهادتهما فيه، قال: أرى شهادتهما جائزة، وما أرى أمرا أتهمهما فيه، قيل له: أما ترى أنهما قد شهدا لأنفسهما بأن القاضي الأول قد قبل شهادتهما وقطع الحق بهما فيتهمان من أجل ذلك؟ فقال: ما أرى هذه تهمة أرد بها شهادتهما، وما أراهما جرا إلى أنفسهما شيئا يتهمان فيه، وسئل عنها سحنون فقال: سمعت ابن القاسم يقول في الرجلين يشهدان على حكم قاض فيقول أحدهما بشهادتي حكم القاضي مع غيري فلا تجوز شهادتهما على الحكم؛ لأنه يريد إمضاء شهادته، قال ابن القاسم: ولو كان اللذان شهدا على الحكم قالا بشهادتهما حكم القاضي عليه وأشهدنا على حكمه رأيتها جائزة؛ لأنه كان يحكم بشهادتهما لو لم يشهدا على الحكم، فمن ثم رأيتها جائزة.
قال القاضي: ظاهر رواية سحنون أن شهادتهما لا تجوز على الحكم وتجوز على أصل الشهادة فيحكم القاضي الذي شهدا عنده بشهادتهما، وهو قول مطرف في الواضحة، وقال ابن الماجشون وابن نافع وأصبغ لا تجوز في ذلك شهادتهما على حال لا على أصل الشهادة ولا على أصل الحكم بها؛ لأنها إذا سقطت في الحكم بما اتهما فيه سقطت كلها، واختار ذلك ابن حبيب، وظاهر رواية يحيى أن الشهادة على الحكم جائزة، بل هو نص جلي، فهي ثلاثة أقوال في المسألة أظهرها كلها رواية يحيى لبعد التهمة فيها؛ لأن قولهما إن ذلك القاضي إنما قضى بذلك الحق بشهادتهما فيه زيادة لو سكتا عنها لم تفتقر إليها الشهادة فوجب ألا تؤثر في إبطال الشهادة، ولبعد التهمة فيها قصرها في رواية سحنون على موضعها خاصة ولم يعدها إلى أصل الشهادة كما لا تعد إلى غيرها، ووجه القول الثالث: أن أصل الشهادة وفرعها كشيء واحد، فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل، وبالله التوفيق.

.مسألة ثلاثة نفر شهدوا على رجل أنهم رأوه يزني فجلدوا الحد فجاء من الغد رابع:

ومن كتاب المكاتب:
قال يحيى: وسألته عن ثلاثة نفر شهدوا على رجل أنهم رأوه يزني فجلدوا الحد فجاء من الغد رابع عدل زعم أنه كان معهم إذ رأوه يزني، أترى أن تقبل شهادتهم بعد الضرب ويكونون عدولا على حالهم قبل أن يضربوا؟ فقال: نعم، تقبل شهادتهم وتشهر عدالتهم ويعلم الناس أن قد سقط التجريح عنهم وتمت شهادتهم بالرابع.
قال الإمام القاضي: هذا خلاف ما مضى من قوله في أول رسم من سماع عيسى، فليس هذا وجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا، فالذي يأتي على ما في سماع يحيى أن يحد الرابع إلا أن يأتوا جميعا، وهو قول محمد بن المواز، ولو جاء الشاهد الرابع على رواية يحيى هذه قبل أن يحد الثلاثة سقط الحد عنهم وحد المشهود عليه بالزنى، وقد نص على ذلك ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقد مضى بقية القول في هذه المسألة في سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وينكران ذلك:

وسألته: عن الشريكين في العبد يشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وينكران ذلك، فقال: إن كان لا مال لهما غيره فلا شيء على واحد منهما، وإن كانا موسرين فلا ينبغي لواحد منهما أن يسترقه، وذلك أن كل واحد منهما مقر أنه حر يعتق على صاحبه يغرم نصف قيمته، فإنما كل واحد منهما متبع لصاحبه بالقيمة التي لو أقر بالذي شهد به عليه غرمها له وكان العبد حرا كله، قال: وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فلا شيء على الموسر، وأما المعسر فلا ينبغي أن يسترق منه شيئا؛ لأنه قد شهد أنه حر على صاحبه، قلت: أرأيت إن ملكه أحدهما يوما ما ملكا تاما؟ قال: أراه عتيقا كله وولاؤه لشريكه الذي كان شهد هو عليه إلا أن يملكه الموسر الذي شهد على المعسر فلا يعتق منه إلا النصف الذي كان تملكه المعسر، وذلك أنه لو أقر بالذي شهد عليه لم يعتق عليه منه إلا نصفه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهما إن كانا موسرين لم يسترق واحد منهما نصيبه، وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا استرق الموسر نصيبه ولم يسترق المعسر نصيبه هو مثل أحد قولي ابن القاسم في كتاب العتق الثاني من المدونة، وقد مضى القول على هذا المعنى مبينا مشروحا في رسم العتق من سماع عيسى، وقوله: أرأيت إن ملكه أحدهما يوما ما ملكا تاما معناه أرأيت إن ملك الشاهد منهما نصيب المشهود عليه قبل أن يعتق عليه نصيبه إن كان المشهود عليه موسرا فكمل جميعه له قال: أراه عتيقا كله وولاؤه لشريكه الذي كان شهد هو عليه، معناه أنه يعتق كله عليه، نصف القديم بالشهادة على شريكه أنه أعتق نصيبه وهو موسر لما يوجب ذلك من تقديمه عليه وعتقه فكان إنما جحده القيمة، والنصف الذي اشتراه من شريكه بإقراره أنه حر يعتق شريكه إياه وولاؤه كله للشريك المشهود عليه؛ لأنه مقر أنه حر من عتاقته، وأما إن كان المشهود عليه معسرا فاشترى الشاهد نصيبه فلا يعتق عليه إلا النصف الذي اشتراه من شريكه المعسر كما قال لأن نصيبه الذي كان له أولا لا شيء عليه فيه بشهادته على معسر، وبالله التوفيق.